خلال زيارته الأولى إلى فلسطين، وعند سؤاله عمّا يريد أن يرى في رام الله، أجاب ضيفنا الأسترالي المتخصص في الأدب ما بعد الاستعماري، من دون أي تردّد: قبرَي الرئيس ياسر عرفات ومحمود درويش. ليست الإجابة صدفية، فالأول يُقدّم على أنه أب الوطنية الفلسطينية والثاني شاعرها.
هذا التزاوج بين السياسي والشعري في شخصيتي عرفات ودرويش تاريخياً جعلت البعض يتندر بوصف درويش "الشاعر العام" مقابل تعبير "القائد العام" الذي ارتبط بالراحل عرفات. هذا الارتباط الذي طالما جعل درويش صوت الثورة الشعري، أصبح بعد موته أحد عناصر بناء الشرعية الرمزية لمشروع بناء الدولة الذي بدأ يتمأسس بعد أوسلو ليصل ذروته مع وصول محمود عباس إلى رئاسة السلطة الفلسطينية، وتقدمه مؤخراً بعدد من الطلبات إلى الأمم المتحدة لقبول فلسطين في عالم الدول-الأمم.
يجادل هذا النص في أن استخدام درويش اليوم ينطلق بالأساس من التصوّر الليبرالي الأوروبي، مغيباً التجربة الثقافية العالم-ثالثية المناهضة للاستعمار، هادفاً لترسيخ منظومتي المأسسة ورأس المال في الأراضي المحتلّة.
جدلية الوطني والإنساني: مفهوم الكينونة
يجنح أغلب قارئي درويش النصيين إلى عملية تحقيب فني-سياسي لشعره، حيث يتم تقسيم أعمال درويش إلى مرحلتين شعريتين، الأولى حيث الشاعر هو صوت الثورة والجماهير والجماعة الوطنية، والثانية حين يصبح شعر درويش كونياً انسانياً متجاوزاً للوطنية الضيقة ومتوجهاً نحو الإنسانية الرحبة وقضاياها. أو، محمود الشاعر الجمعيّ مقابل محمود الشخصيّ الذاتيّ. هذا التحقيب الشعري هو ما يتم ترويجه أيضاً عند الحديث عن درويش وانسانيته. عادةً، تتم الإشارة إلى ما يسمّى متأخر شعر درويش كنموذج للشعر الإنساني، وهو ما تستخدمه السلطة ذاتها في توكيد مشروعها.
في خطابه الموجّه إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة في العام ٢٠١١، استحضر الرئيس محمود عباس مقطعاً شعرياً من قصيدة "حالة حصار" التي كتبها درويش في خضم الانتفاضة الثانية، قائلاً: "إن شعبي يريد ممارسة حقه في التمتع بوقائع حياة عادية كغيره من أبناء البشر، وهو يؤمن بما قاله شاعرنا الكبير محمود درويش: واقفون هنا، قاعدون هنا، دائمون هنا، خالدون هنا، ولنا هدف واحد.. واحد.. واحد.. أن نكون".
ما يقدّمه عباس في استحضار هذا المقطع الشعري تحديداً يعبّر بامتياز عن الانتقال في فعل الكينونة التي طالما قدّمها درويش باعتبارها كينونة وطنية وجودية الطابع إلى فعل يختصر "أن نكون" في مؤسسة الدولة. الدولة، بمعناها الممأسس والجغرافي والسلطوي، هي نقطة النهاية بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية هذه الأيام، وهي تأتي على عكس الكينونة التي تفهم من قول درويش، والتي ترتكز على فعل الوجود الوطني باعتباره النقيض للحالة الاستعمارية، أو ذلك الفعل الوجودي الأخلاقي القائم على رؤية انعتاقية من القهر الاستعماري بأبعاده الثقافية والقومية. ما قدّمه عباس هنا هو كينونة السلطة على الشعب، لا كينونة سلطة الشعب.
إن استخدام درويش لفعل الكينونة المستقى من مسرحية "هاملت" لشكسبير ليس بالجديد. ففي قصيدة "مديح الظل العالي" حيث يصور درويش حالة الحصار باعتبارها سؤال الوجود للشعب الفلسطيني، وفعل الوجود يتشكل في صمود المقاتل الممثّل للأمة في تلك اللحظة، حيث يقول:
لك أن تكون - ولا تكون
كل أسئلة الوجودِ وراء ظِلِّك مهزلَة
والكونُ دفترك الصغيرُ،
وأنت خالقُهُ
فدوّن فيه فردوس البداية، يا أبي...
أو لا تُدَوِّنْ
أنت... أنتَ المسألَة
….
عبثاً تحاول يا أبي مُلْكَاً ومَمْلَكَةً
فَسِرْ للجُلْجُلَةْ
واصْعَدْ معي
لِنُعيْدَ للروح المُشَرَّد أوَّلَهْ
ماذا تُريد، وأنت سَيِّدُ روحنا
يا سَيِّدَ الكينونة المتحوِّلَةْ؟
يا سَيِّدَ الجمرةْ
يا سَيِّدَ الشُّعْلَةْ
ما أوسع الثورة
ما أضيقَ الرحلة
ما أكبَرَ الفكرة
ما أصغَر الدولة.
على الرغم من التباعد الزمني والتحول في المشاريع والبرامج السياسية بين تجربتي الحصار في بيروت ومدن الضفة الغربية التي شكلت سياق القصيدتين "حالة حصار" و "مديح الظل العالي"، إلا أنه عادة ما يتم مقابلتهما كما تتم مقابلة ما يصنّفه الكثيرون على أنه درويش القديم مقابل درويش المتأخر. تلك المقابلة التي تموضع أشعار درويش باعتبارها انتقالاً من مرحلة الشاعر "الوطني" إلى مرحلة آفاق "الإنسانية الرحبة"، هذا الانتقال الذي يفترض أن درويش عبّر عنه من خلال شعره الجديد المهتم بالقضايا الانسانية ومتجاوزاً لضيق التفكير الوطني.
إن ما يقدّمه هذا التحقيب لشعر درويش يقوم بالأساس على خللٍ في فهم ما قدّمه الفكر العالم ثالثي المناهض للاستعمار عن معنى الوطنية المتخارجة عن الفعل الاستعماري. ويعتمد بالأساس على الفلسفة الليبرالية التي قدّمت النموذج الكوني (الكوزموبوليتاني) باعتباره نموذجا "تحرّريا" عن الفكر القومي الأوروبي في القرن التاسع عشر. هذا النموذج الكوني لا يوجد ما يدعمه في فكر التحرّر من الإستعمار، حيث الوطنية المناهضة للاستعمار ليست فعلاً قومياً شوفينياً وإنما هي عنصر مركزي وشَرطيّ في عملية التحرّر الإنساني جمعاء، كما يخبرنا فرانس فانون في نهاية كتابه "معذبو الارض"، مبشراً بانسانية جديدة تقوم بالأساس من رحم نشوء وطنيات التحرر من الاستعمار التي تبشر بمعنى مختلف للوجود الإنساني.
إن مقابلة سؤال الوجود عند درويش (شعره القديم والمتأخر) يجعل منه، على عكس ما يقدمه البعض، مثقفاً عالم ثالثياً بامتياز، حيث الوطنية ليست وجوداً لاتاريخيّا أو تلقيناً إيديولوجياً، وإنما هي بحثٌ في الانعتاق الجماعي، وفعلٌ نضاليّ يقوم على البحث عن المعنى والعدالة، مركزه في حالة التحرّر من الإستعمار هو إنسانٌ جديد ووطنية إنسانية.
بكلمات أخرى، تجري عمليتا المأسسة والقراءة النصيّة المحقبة لشعر درويش ضمن مشروع إيديولوجي ينطلق من الفهم الليبرالي الممركز حول التجربة الأوروبية للعالم. ويتسلّح هذا المشروع بقراءة تغييبيّة للعالم ثالثية من المنظومة الثقافية الفلسطينية، في عملية إعادة ترميز للتاريخ الثقافي بحيث يخدم مشروع الدولة ونسختها النيولبرالية المتوافقة مع الشرط الإستعماري.
مأسسة درويش
قد يكون محمود درويش من أكثر الشعراء الفلسطينيين قراءةً واستحضاراً في العالم العربي، وفلسطين تحديداً. لقد كان حضوره الشعري - الذي استخدم وقدّم كجزء من مشروع "منظمة التحرير الفلسطينية" في مرحلة بحثها الحقيقي عن التحرّر من الاستعمار- مركزياً في بناء الثقافة الوطنية الفلسطينية. هذه المركزية كانت ضمن المشروع التربوي القصدي الذي قدمته المنظمة وعمليات التعلّم غير المنظّم عن فلسطين والثورة. وسوف يجد الباحث أن أشعار درويش وشمت على كمّ كبير من الملصاقات والمطبوعات الوطنية، وقصائده المطبوعة والمسجّلة ساهمت في تشكيل وعي كمّ كبير من المنتمين إلى فصائل المنظمة.
هذه الرمزية التي حملها درويش جعلت منه، بعد وفاته، أيقونة إيديولوجية تستخدمها السلطة الفلسطينية في دعم مشروعها القائم على فكرة الدولة، من خلال استحضار أشعاره ومأسسة رمزيته كاحتكار ثقافيّ يضيف إلى شروط المشروعية السياسية التي تروج لها السلطة.
في أولى عمليات المأسسة بعيد وفاة درويش، تم تشكيل "مؤسسة محمود درويش" بمرسوم رئاسيّ كمؤسسة لها مواردها المخصصة لها من الحكومة. وقد تمّ تشكيل المجلس التنفيذي للمؤسسة من مجموعة أغلبها تمتلك علاقة مركزية بالسلطة، كوزراء سابقين أو آنيين. ثم، جاء قرار مجلس الوزراء باعتماد ذكرى ميلاد درويش كيومٍ للثقافة الوطنية الفلسطينية. وبعيد سنتين من وفاته، لم يعد قبر محمود درويش كما هو بسيط ورمزي، بل أصبح "حديقة البروة" التي تضمّ مقاماً كبيراً يمتلئ برمزية القوة، حيث يقوم على تلّة يرتفع إليها الزائر بدرج عال، على جوانبه حدائق مزروعة وأحواض مائية، لينتهي إلى القبر المزيّن بالرخام، ومتحف يضم أغراض درويش الشخصية بأغلبها.
هذا القبر أصبح أحد المعالم المركزية في رام الله، إلى جانب قبر الشهيد عرفات.
هذه الرمزية الممأسسة التي قدمتها السلطة لدرويش تتزامن مع حالة قراءة شعر درويش من قبل الكثير من النقاد. ففي افتتاح "حديقة البروة" حيث قبر درويش في العام ٢٠١٠، قال سلام فياض (رئيس الوزراء في حينه، وممأسس السياسات الإقتصادية النيولبرالية للسلطة الفلسطينية) أن "الدولة التي نسعى لإقامتها هي ليست فقط دولة كل الفلسطينيين أينما كانوا، بل هي كذلك دولة القيم الإنسانية النبيلة التي تعتبر الإبداع ركيزة بارزة تخلق القدرة على الإنجاز والثقة بالقدرة على تحقيقه، ولن يكتمل البناء إلا بها"، حيث أن درويش "انتصر بانسانيته لانسانيتنا".
هذا الاستخدام لمفهوم الإنسانية الذي يمثّله درويش أصبح الرأسمال الثقافي الذي يجعل الفلسطينيين يستحقون الدولة. استخدام مفهوم الإنسانية أصبح الأداة التي تتشرعن عبرها عملية الإنتماء إلى عالم الدول، ولكن، في حالة السلطة، هي تلك الدولة المنتجة ضمن حدود القبول الإستعماري لها. في هذا السياق، تم تسخير شعر درويش ليصبح أداة من الأدوات المستخدمة في صناعة مجموعة من الرموز التي تتوافق مع الرؤية الإيديولوجية التي تقدّمها السلطة باعتبارها مشروع التحرّر، أيّ الدولة القائمة على اقتصاد السوق والسلطوية. هي أقرب إلى تحويل الرموز التي طالما كانت رموزاً انعتاقية إلى دلالات فارغة من معانيها الأصلية تم تحويرها لتخدم سيطرة السلطة على المجتمع.
في محاولة لاثبات جدارة الفلسطينيين بدخول عالم الدول، تحدّث محمود عباس في خطابه أمام الأمم المتحدة عن قدرة الفلسطينيين على بناء دولتهم التي بدأت السلطة الفلسطينية بتشكيلها "من خلال تنفيذ برنامج بناء مؤسسات الدولة القادرة على صياغة نموذج متقدم لدولة عصرية فعالة، عبر تطوير أداء مؤسساتها ودوائرها، وإدارة المال العام باعتماد معايير متقدمة، واعتماد الشفافية والمساءلة، وقواعد الحكم الرشيد". وأكمل، في فقرةٍ أخرى، أن هذا النموذج قُدّم من خلال التواجد في منظمة "اليونسكو"، قائلاً: "وها قد مرّ عامٌ وفلسطين، وطن محمود درويش وإدوارد سعيد، تمارس دورها في اليونسكو بمسؤولية ومهنية عالية، وتلتزم بالمواثيق الدولية، وتتعاون مع جميع الدول الأعضاء من أجل تحقيق أهداف المنظمة، وتقدم نموذجاً لما سيكون عليه إسهامها الإيجابي البنّاء في المنظمات الأممية". إن استحضار إسمي محمود درويش وإدوارد سعيد كنموذجين للمثقف الفلسطيني الذي يمثل الكونية، يأتي كجزء من تشريع فكرة قبول الدولة الفلسطينية باعتبارهما نموذجين كوزموبوليتانيين مقبولين عالمياً. وهنا، تصبح فلسطين - بحسب عباس وكاتبي خطاباته - قادرة على انتاج المثقف الكوني، ولكن، يتم اختزال إثنين من هذا المثقف الكوني ليصبحا عنصري المجادلة الداعمة لمأسسة فلسطين ضمن منظومة عالم الدول النيوليبرالي. إن العملية التي تنتهجها السلطة في أيقنة درويش وجعله رمز فلسطين الثقافيّ شبه الأوحد، لا تتم من خلال تقديمه كشاعرٍ مناهض للاستعمار كما كان، وإنما تخضعه لعملية تحوير في رمزيته بحيث يضحي نموذجاً كونياً أو ذخراً ثقافياً داعماً لفكرة الدولة، وأحد الأباء المؤسسين لمشروعيتها.
اقتصاد يهدم الإنتاج
"نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا وإن لم نستطع فلا حول ولا قوة إلا بالله".
- محمود عباس، الأمم المتحدة ٢٠١٤.
"نعيش وتحيا فلسطين" بدلاً من "نموت وتحيا فلسطين"، كان أحد الشعارات التي تم تحويرها بعيد الإنتفاضة الثانية في سعي متشابه مع انتشار استخدام كلمات درويش "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا اليها سبيلا". هذا الاستخدام الذي أصبحت فيه فكرة حب الحياة وكأنها عملية ابتعادٍ عن العنف والموت، بما تحمله أيضاً من تغييب للعنف الإستعماري من واقع فلسطين.
تشبه فكره حب الحياة صناعة اللاعنف، حيث عملية النفي للعنف هي تجاوب مع الصورة الاستشراقية والاستعمارية عن الفلسطيني العنيف. في حب الحياة، محاولةُ للهرب من عملية التمثيل للفلسطيني باعتباره مقدساً لثقافة الموت التي روّجتها الدعاية الصهيونية والغربية، خلال الانتفاضة الثانية. ففي صناعة اللاعنف، حيث الخطاب موجهاً للعالم (والذي يتم اختصاره بالأوروبي والأميركي)، يصبح "الفلسطيني" موضوعاً للشفقة الاخلاقية، لا التضامن السياسي. وهنا، يصبح شعار "نحن نحب الحياة"، شعاراً يقدم الفلسطيني كمسالم وانساني يستحق أن يحصل على دولة. تجدر الإشارة هنا إلى أن شعار "حب الحياة" لم يعد حكراً على شخصيات سياسية بعينها أو أفراد، وإنما بات شعاراً مركزياً في حملات منظمات غير حكومية وشركات.. هو اليوم أقرب إلى إيديولوجيا مهيمنة.
إن الإستخدام المجتزأ لفكرة "حب الحياة" والمعاني الإنسانية الأخرى من سياقها الشعري والسياسي، أصبح الأكثر تداولاً عند الحديث عن شعر درويش. وقد يكون الاستخدام الأكثر دلالة هو ذاك الذي يتم على لوحات الشركات الإعلانية. ففي مرئية من شركة "الوطنية للاتصالات الخليوية"، نرى طفلاً فلسطينياً يحمل حمامة بيضاء، وتظهر في خلفية المشهد البيوت المدمرة في غزة تتوسطها كلمات درويش: نحن نحب الحياة. وفي زاوية الصورة، كتبت كلمات: "غزة في القلب". في هذا المشهد السريالي، يصار انتاج حب الحياة والسلام في إعلانٍ تجاريّ هدفه الربح، وتستحضر الرموز الوطنية من قبل شركات احتكارية. شركة "جوال" المنافسة ليست بأحسن حالاً في استخدام الرموز الوطنية، ففي فترة اضراب الأسرى عن الطعام، انتشر ملصق إعلانيّ في الأراضي المحتلة كتبت فيه كلمات من قصيدة أخرى لدرويش: "فكر بغيرك". وتزداد المفارقة دلالةً عندما تقرأ في أسفل الصورة نصاً يقول إن هذا ليس إعلاناً تجارياً وإنما ايماءة تضامنٍ مع الأسرى الفلسطينيين. تزداد المفارقات مع استخدام "شركة الاتصالات الفلسطينية" إعلاناً بمناسبة "يوم الأرض"، ذلك اليوم الذي يعبر بشكل جوهري عن طبيعة البنية الإقصائية في المشروع الاستعماري الاستيطاني، حيث تستخدم الشركة مقطعاً آخر يقول: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، مع خلفيةٍ ليست سوى حقل لشجر الزيتون يمكن أن نراه في أي دولة متوسطية، في غياب تام لأيّ دلالات سياسية أو ثقافية. وتشتد المفارقات ضراوةً حين يتم نشرها على صفحة الشركة على فايسبوك، وتحتها عبارة: انشرها وتربح جهاز كمبيوتر.
إن هذا الاستخدام لبعض كلمات درويش أضحى معمّماً في الأراضي المحتلّة، حيث إيديولوجيا حب الحياة تلاصق إيديولوجيا رأس المال، يصار فيها إلى جعل الفلسطيني مستهلكاً لأحدث أنواع التكنولوجيا وكائناً اقتصادياً صرفاً.
إن تلك النماذج المقدمة على آلية استخدام درويش من قبل الشركات من أجل استخلاص الربح في الأراضي المحتلّة ما بعد أوسلو، ليست سوى أحد المؤشرات على السعي لجعل النضال الفلسطيني مأسسة من ناحية، ومسلّعاً من ناحية أخرى. ولكن سخرية القدر تكمن في أن درويش، بعبقرية الشاعر وعيون الناقد، كتب قبل 20 عاماً، وفي حديثه عن بيروت:
والشرقُ عكس الغرب أحياناً
وشرقُ الغرب أحياناً
وصورتُه وسلعته...
أرى مُدُناً تتوِّجُ فاتحيها
وتصدّرُ الشهداء كي تستورد الويسكي
وأحدثَ منجزات الجنس والتعذيبِ
...
بيروت - أسواقٌ على البحرِ
اقتصادٌ يهدم الإنتاجَ
كي يبني المطاعم والفنادقَ
ليست كلمات درويش السابقة ما يعمّق المفارقات في الحالة الفلسطينية. ففي أوساط معينة، أصبح استحضار درويش موضعاً للسخرية المرّة. وعلى الرغم من اعتراف الجميع بسطوة درويش الشعرية والفنية، أصبح استخدامه وشعره من السلطة ومن المؤسسات غير الحكومية والشركات موضوعاً للتندّر. وفي حوار مع كاتب ومثقف شاب يصف فيه التقاط الصورة السابقة بالقول:
"كنت في الطريق مع مجموعة من الأصدقاء إلى رام الله، مررنا من حاجز قلنديا، وكان الحاجز في أوج عطائه. وبعدما اجتزنا الحاجز نحو رام الله، التقطت عيناي إعلاناً تجارياً يحتوي على مقولة درويش "على هذه الارض ما يستحق الحياة" (وهي مقولة بات من المألوف أن تعثر عليها في كل مكان، حتى على علب اللبنة وكراتين البيض). ما لفت انتباهي كان توظيف المقولة ونصبها على لوحة إعلانات ضخمة تبدو وكأنها نابتة من مزبلة: تخيل المشهد: مخيم لاجئين، فوضى السيارات، مكبر صوت ينهر فيه أحد الجنود، بشكل متكرر، صفوفا طويلة من البشر الذين بلا صوت، والذين يصطفون في صفوف طويلة ويقتتلون على من كان هنا أولا، وينهاهم جندي بعربية مكسرة فينتهون. أطفال وسخون يبيعون أشياء صينية ويدقون على زجاج النافذة بإلحاح غريب (لو مرّ غسان كنفاني هنا، لما فكر مطلقا باختتام إحدى رواياته بسؤال "لماذا لم يدقوا"، لأنهم يدقون، بإصرار رهيب). الإعلان ملمع، يشبه مستوطنة، نظيف، يكثف اغتراباً للقول أمام الواقع. والأنكى، مكتوب بحروف مذهبة (المعدن الوحيد الذي لا يعلوه الصدأ في مشهد الحاجز حيث بنادق الجنود والآن الاعلان ايضاً) قررت التقاط صورة للإعلان، من زاوية مزبلة. رأيت في المشهد تكثيفا لفلسطين ما بعد أوسلو، الصدأ يعلو كل شيء. ورأيت كرتونة دخان مارلبورو، ما علاقتها؟ لا أدري، صورتها أيضاً، وتذكرت دعاية راديو "أراب كارلو" في مسرحية "كاسك يا وطن" "مارلبورو، السيجارة الأكثر تهريباً في العالم". ودخنت سيجارة غولواز، قبل أن نغوص في رام الله".
[ينشر ضمن إتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية" و"السفير"]
(*) النص هو جزء من فصل سينشر بالإنكليزية، يتضمن جميع المراجع المستخدمة بعنوان:
“Speaking ‘Darwish’: Cultural Capital in Neoliberal Palestine.” in Biopolitics and Memory in Postcolonial Literature and Culture. Ed. Michael Griffiths. Farnham: Ashgate. 2015.